العطاء: سمو النفس وجوهر الإنسانية

العطاء هو جوهر القيم الإنسانية، وروح التآزر والتراحم التي تقوم عليها المجتمعات السليمة. هو ليس فقط فعلاً مادياً يتمثل في منح المال أو الأشياء، بل يتعدى ذلك ليشمل المشاعر، والوقت، والخبرة، والدعم النفسي، وكل ما يمكن أن يقدمه الإنسان للآخرين دون انتظار مقابل. فالعطاء في جوهره هو سلوك سامٍ ينبع من الإحساس بالآخر، ومن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، ومن وعي الإنسان بانتمائه إلى منظومة أكبر من ذاته.

مفهوم العطاء في الفكر الإنساني والديني

جاءت الفلسفات والشرائع السماوية لتؤكد على العطاء كقيمة محورية في البناء الاجتماعي والروحي للإنسان. في الإسلام، يُعد العطاء من أرفع درجات الإيمان، وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يعزز هذه الفضيلة، مثل قوله تعالى: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون” [سورة آل عمران: 92]. أما في المسيحية، فقد جسّد السيد المسيح مبدأ العطاء من خلال حياته وتعاليمه، قائلاً: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ”.

وفي الفلسفة البوذية، يُنظر إلى العطاء بوصفه أولى درجات بلوغ الكمال الروحي (الباراميتا)، فهو يعمل على تنقية القلب من الأنانية. أما في الفلسفة الغربية، فقد تناول فلاسفة مثل كانت وروسو وأفلاطون فكرة العطاء ضمن مبادئ العدالة والتضامن والمساواة الاجتماعية.

العطاء كقيمة اجتماعية

العطاء هو اللبنة الأساسية في بناء مجتمع متكافل ومتماسك. عندما يمنح القوي الضعيف، والغني الفقير، والمتعلم غير المتعلم، يصبح النسيج الاجتماعي متينًا ومترابطًا. فالعطاء يحد من الفوارق الطبقية، ويقلص الشعور بالغبن، ويخلق بيئة يسودها التفاهم والتعاون.

العطاء لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل هو ركيزة من ركائز تطور المجتمعات والدول. فالمجتمعات التي تشجع على ثقافة العطاء، سواء عبر العمل التطوعي، أو التبرعات، أو البرامج الاجتماعية، هي مجتمعات تنعم بالاستقرار والتوازن، وتتحقق فيها العدالة الاجتماعية بشكل أفضل.

العطاء كعنصر أساسي في التنمية المستدامة

لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة من دون الحديث عن العطاء. فحينما يُسخّر الإنسان قدراته وخبراته في سبيل خدمة مجتمعه، فإنه يعزز من فرص التنمية البشرية والاقتصادية. العطاء في هذا الإطار يشمل العمل غير الربحي، التطوع في المشاريع البيئية والاجتماعية، دعم المبادرات الشبابية، المساهمة في محو الأمية، والمشاركة في التعليم المجتمعي.

تُعد المؤسسات الخيرية والإنسانية أذرعاً قوية لتفعيل قيمة العطاء في المجتمعات، وقد أثبتت التجارب أن الدول التي تستثمر في مؤسسات العطاء تملك بنية اجتماعية أكثر تماسكا، واقتصاداً أكثر عدلاً، وأفراداً أكثر انتماءً.

العطاء في الشعر العربي

عرف العرب منذ القدم العطاء واعتبروه مظهراً من مظاهر الكرم والشهامة والرجولة. وقد تغنّى الشعراء بهذه القيمة، واعتبروها من صفات العظماء والسادة. فنجد في الشعر الجاهلي والإسلامي والأندلسي والعصور اللاحقة الكثير من الأبيات التي تمجد العطاء وتُعلي من شأن الكريم المعطاء.

يقول الشاعر حاتم الطائي، الذي أصبح مضرباً للمثل في الكرم:

إذا ما صنعتُ الزادَ أبقيتُ حُصَّةً

لضيفٍ أراهُ غيرَ ذي أهلِ منزلِ

وقد مدح الشاعر المتنبي أحد الكرماء قائلاً:

إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ

وإن أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تمرّدا

في هذه الأبيات يتضح أن العطاء لا يُقاس فقط بقيمته المادية، بل بما يحمله من معنى أخلاقي وإنساني، وما يتركه في نفس المتلقي من أثر. ويبرز الشعر العربي العطاء باعتباره أحد وجوه النبل والفضيلة، التي لا تأتي إلا من أصحاب الهمم العالية والقلوب الرحيمة.

أنواع العطاء

العطاء ليس مفهوماً واحداً، بل هو متعدد الأوجه، وتتباين أنواعه باختلاف المواقف والظروف، ومنها:

العطاء المادي

وهو الأكثر وضوحاً وانتشاراً، ويشمل التبرعات المالية، تقديم المساعدة للفقراء، إطعام المحتاجين، وغيرها. ورغم بساطته الظاهرة، فإن أثره العميق يظهر في سد الاحتياجات الأساسية للإنسان، وفي تخفيف المعاناة عن الآخرين.

العطاء المعنوي

يتجلى في الدعم النفسي، والمواساة، والاستماع للآخرين، وتقديم النصيحة الصادقة، ونشر الكلمة الطيبة. هذا النوع من العطاء قد يكون أكثر تأثيراً من المادي، لأنه يلامس الجوانب النفسية والروحية، ويعزز من ثقة الإنسان بنفسه وقدرته على مواجهة الحياة.

العطاء المعرفي

ويتمثل في نقل المعرفة، والتعليم، والتدريب، والمشاركة بالخبرات. وهو من أنبل أنواع العطاء، لأنه يفتح للناس آفاقاً جديدة، ويساهم في بناء أجيال قادرة على التغيير والتطوير.

العطاء الزمني

ويعني تخصيص الإنسان جزءًا من وقته لخدمة الآخرين، عبر التطوع في الأنشطة المجتمعية، أو زيارة المرضى، أو تعليم الأطفال، أو المساعدة في تنظيم الفعاليات الخيرية. الوقت هو أثمن ما يملك الإنسان، ومن يقدمه للغير يكون قد منح شيئاً عظيماً.

العطاء في العلاقات الإنسانية

في العلاقات الإنسانية، العطاء هو سر الاستمرار، والتوازن، والدفء العاطفي. أن تعطي الحب، والاهتمام، والتسامح، والوفاء، هو أن تبني علاقة متينة تقوم على الاحترام والتقدير المتبادل. فالعلاقات التي لا تقوم على مبدأ الأخذ والعطاء المتوازن سرعان ما تنهار.

آثار العطاء النفسية

أثبتت الدراسات النفسية أن للعطاء أثراً إيجابياً كبيراً على الصحة النفسية للإنسان. فالشعور بأنك قادر على إحداث فرق في حياة الآخرين يعزز من ثقتك بنفسك، ويمنحك شعوراً بالرضا والسعادة. وقد أظهرت دراسات علمية أن الأشخاص الذين يمارسون العطاء بانتظام يتمتعون بمعدلات أقل من الاكتئاب والتوتر، كما أنهم يعيشون حياة أطول وأكثر استقراراً نفسيًا.

العطاء بين الفطرة والنية

الإنسان مفطور على حب العطاء، فهو يجد متعة خفية في العطاء تتجاوز متعة التملك. غير أن النية خلف العطاء تظل عنصراً حاسماً في تحديد قيمته الأخلاقية والروحية. فالعطاء الذي يُقصد به الرياء أو التفاخر يفقد جوهره، بينما العطاء النابع من القلب ومن غير انتظار لرد الجميل، هو العطاء الحقيقي الذي يُخلّد في ذاكرة الزمن.

العطاء في العصر الحديث

رغم التحولات الاقتصادية والتكنولوجية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، فإن العطاء لم يفقد مكانته، بل ازدادت أشكاله تنوعاً وفاعلية. اليوم، أصبح العطاء أكثر تنظيماً من خلال المنصات الرقمية، وتطبيقات التبرع، والعمل الخيري عبر الإنترنت، والمبادرات الاجتماعية التي يديرها الشباب.

وقد برز مفهوم “المسؤولية الاجتماعية للشركات”، ليعكس كيف أن العطاء لم يعد مقتصراً على الأفراد، بل صار واجباً على المؤسسات التي تحقق الأرباح من المجتمع، أن تعود لترد الجميل إليه عبر المشاريع التنموية، وبرامج التعليم، ودعم الأسر المحتاجة.

التحديات التي تواجه ثقافة العطاء

رغم أهمية العطاء، إلا أنه يواجه عدة تحديات في العصر الحديث، منها:

• النزعة الاستهلاكية التي تجعل الفرد أكثر ميلاً للاحتفاظ بما يملكه وعدم مشاركته.

• ضعف الوعي المجتمعي بأهمية العمل الخيري، خاصة في المجتمعات التي تغيب فيها ثقافة التطوع.

• الفساد وسوء إدارة التبرعات، مما يقلل من الثقة في المؤسسات الخيرية ويُثني البعض عن العطاء.

• الضغوط الاقتصادية التي تعيق الأفراد عن تخصيص جزء من مواردهم للعطاء.

العطاء كرسالة شخصية

كل إنسان في هذه الحياة يحمل رسالة، ويمكن أن يكون العطاء أحد أهم أوجه تجسيد هذه الرسالة. لا يُطلب من الإنسان أن يكون ثرياً ليعطي، بل أن يكون قلبه ثريًا بالإحساس بالآخرين. في كل يوم تشرق فيه الشمس، هناك فرصة جديدة للعطاء، مهما كان بسيطاً.

قد يكون العطاء كلمة طيبة، أو ابتسامة صادقة، أو وقتاً تقضيه مع شخص يشعر بالوحدة. كل فعل صغير يحمل في داخله بذور التغيير. ومتى ما أدرك الإنسان أن العطاء لا يُنقصه، بل يثريه، فإنه سيكون جزءًا فاعلاً من دورة الخير التي ترتقي بالمجتمعات.

جدول: مقارنة بين أنواع العطاء وتأثيراتها

خاتمة

العطاء ليس حالة طارئة، بل أسلوب حياة ونمط تفكير. هو انعكاس لسمو الإنسان، وقدرته على تجاوز أنانيته، والتواصل مع محيطه بروح من المسؤولية والتعاطف. العالم الذي تسوده ثقافة العطاء، هو عالم أقل ظلماً وأكثر إنصافاً. ومن يُعطي، فإنه في الحقيقة يمنح نفسه معنى أعمق للحياة، ويترك أثراً لا يُمحى في قلوب الآخرين وفي ذاكرة الإنسانية.

المراجع:

• القرآن الكريم.

• كتاب “قوة العطاء” – وين ديير.